الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

السقوط ليس تحليقاً

سمير عطاالله
A+ A-

لا أحد منا يعرف على ماذا لا يزال يقوم لبنان، أو ما بقي منه. للمفسّرين والشارحين والمحلّلين شروحات كثيرة. جميعها – تقريباً – تغيَّر غير مَرة، بعد الاستقلال، بعد 1958، بعد الحرب، وفي اهتراءات هذه الأيام. لكن هناك بعض التعابير والمصطلحات التي لا تُلغى من التداول، تفقد قيمتها الأساسية ومعناها، مثل النقد، لكنها تبقى السلعة الوحيدة في سوق الصرف. منها "الميثاقية" والدستور والقانون والعدالة وباقي المعاطف والأغطية. لاحظ مثلاً أن مصطلح "الميثاقية" يُستخدم كل يوم، لكن أحداً على الاطلاق لا يشير إلى كلمة "الميثاق". حتى في المواويل وعيني يا موليا. وكثيرون يتحدثون عن المسيحيين، لكنهم يخجلون في ادّعاء المسيحية. لماذا؟ لأن الميثاق صنم من شمع، أما الميثاقية، فهي لباسه. لا نصّ يمنع استخدام ثياب الفقيد، وخصوصاً إذا لم يكن له من وريث أو مطالب. مجرد أدعياء.
تخيّل بلداً في مثل هذه الحال من التحلّل السياسي والقيَمي والقانوني والشرعي، وثمّة من يقفز مُطالباً بالميثاقية. تماماً كمن ينادي بـ"المشرقية" فيما "داعش" تحتل ثلثي العراق وسوريا، وفيما كل قوة غير رسمية تتخذ لنفسها قطعة من الشرق وتبني فوقها "النظام" الذي تريد، والقتل الذي تهوى.
سُئل هنري كيسينجر، السياسي الأكثر دموية في تاريخ أميركا ما بعد حربها الأهلية، إن كان يذكر في التاريخ مرحلة أكثر عنفاً وعبثاً من الحاضر، فقال: لا! لا يذكر. العصور الماضية كان لها شيء من الضوابط والمواثيق. لم يكن ممكناً – أياً يكن المنتصر – أن يحزّ رؤوس 18 جندياً أسيراً لعرضها على فضائيات العرب، من دون تحذير مُسبق لذوي القلوب الضعيفة. على الأقل.
مناخات التوحش تترك آثارها في كل مكان. كمال جنبلاط وزير الداخلية، منَعَ نشر صور الجرائم لئلا تعتاد الناس رؤيتها. خصمه، وزير الأشغال بيار الجميل، منع استخدام الزمّور. ماذا تريد أن تمنع اليوم؟ كان ريمون أده يكرّر دائماً انه يجب أن نعلِّم الأجيال الفارق بين المستوى والتدهور، بين العلو والانحطاط. بين السموّ والدَرك الاسفل. لا يمكن لـ"الميثاقية" أن تعيش إذا لم يكن لها وجود إلا في ساحة النجمة. ولا يمكن أن تُغلق وسط البلد طوال عامين وتعتبر ذلك "انتصاراً للعروبة" في تعبير الدكتور نبيل نقولا، ثم تأمر الميثاقية بالظهور فجأة من مخبئها. الميثاقية سلوك وطني، تصالحي، التقائي، وسطي، قيَمي، شرطه الأول الممارسة. القاعدة لا المزاج. الناس لا الشخص. الدولة لا المصلحة. تراكم السماح والخير والالتقاء وليس تراكم التحقير والزَبد .
توضع المواثيق والدساتير والمعاهدات والعقود، من أجل حماية الحقوق العامة، وتصبح مرجعاً نهائياً لها. تُسند كل هذه إلى مجموعات سابقة من القوانين المولودة من أرحام التجارب والمحن والنزاعات. على كل ذلك، يبنى شيء اسمه الاستقرار، وديمومة تُسمّى الدولة.
المشهد السياسي في لبنان كان خارج هذه الأطر. فجأة ظهَر الرئيس إميل لحود بابتسامته المعهودة وقميصه المعروف بين رجال المقاومة البرلمانيين، فيما ظهَر الجنرال ميشال عون في الرابية بين رجالها السياسيين. في الذاكرة الوطنية أن قائد الجيش لحود هو الذي قصف قائد الجيش عون لإخراجه من قصر بعبدا. وبين الجنرالين، الممدَّد له والساعي أبداً إليه، يبدو القصر الجمهوري مَوضع مأساة أخرى بين المسيحيين.
لم يتردّد الجنرال عون، بعد نحو ربع قرن، في أن يحصر المسألة كلها بينه وبين الدكتور سمير جعجع. يثير ذلك ذكريات أليمة وصوَراً من تبادل العنف وقصف الأرض والشرفات والملاجئ ومرافئ الهرَب. أليس من ماروني يستحق أن يمثّل اللبنانيين الآخرين؟
كانت هناك أغنية من الريف الأميركي للممثل جف بريدجز: "مضحك كيف أن السقوط يبدو مثل الطيران. لفترة وجيزة". دعوني أذكركم بنصها:
Funny how fallin feels like flyin for a while
الغضب يمحو الفارق بين السقوط والطيران ولا يميز المرء الحقيقة إلا بعد الارتطام. Fallin and flyin. كانت ردة الفعل العامة على فروسية وائل أبو فاعور مخزية كالعادة. "عرفت في لبنان بغلاً يُدعى الرأي العام"، قال سعيد تقي الدين. وهو أيضاً صاحب القول الآخر: "ما أبلغ القحباء عندما تُحاضر في العفة". في مجتمع مهترئ مثل اللحوم والضمائر والمستويات المدنية، قامت القيامة على الفاضح دعماً للفضيحة. أناس يهزُجون في قتْلهم الجماعي، بكل الوسائل المتاحة لأرباب الجريمة.
أكل المجارير يضرّ بالسياحة، لا بالصحة العامة. بالسمعة، لا بالحياة. أإلى هذا الحد بلغ إدمانكم ما قد عُودتم؟
بلد هرطقة في كل شيء. يريدون انتخاب النواب بالطوائف وحدها، أما الرئيس، فبالشعب كله. لكن هذا الرجل الذي يُدعى كل لبناني إلى اختياره يجب أن يكون مارونياً فقط. كيف؟ تمنحني الخَيار ثم تستعبدني فيه. هذا ليس انتخاباً. هذا استفتاء مثل باقي الاستفتاءات العربية، مع فارق وحيد: استبداد جماعي بدل الاستبداد الفردي.
لماذا ليس مسموحاً لي أن أقترع لتمّام سلام؟ هل تعرفون استقلالياً أكثر منه؟ لبنانياً أكثر منه؟ أخلاقاً وطنية وعجينة وطويّة؟ استفتاء شعبي، فليَكُن، إنما لجميع الشعب وجميع المواطنين. ولنخرج من هذا التناقض الصبياني المتسلسل: طرح الرئاسة على أنها الفرع الماروني من الدولة والحكم، هرطقة. كيف تعجز عن انتخاب نائب، ثم تقرّر أن الرئيس بالتصويت الشعبي، من بريتال إلى عرسال. غريب أن يحصر الجنرال عون الانتخابات الرئاسية بينه وبين الدكتور سمير جعجع. كأن شيئاً لم يتغيّر منذ 1988 إلى اليوم. منذ ذلك التاريخ سقط الاتحاد السوفياتي ولم يعد هناك شيء يُسمى أوروبا الشرقية، وتوحّدت ألمانيا من جديد، ودخل أمين معلوف الأكاديمية الفرنسية، وصار كارلوس سليم أغنى رجل على كوكب الأرض، ووصل أسوَد إلى البيت الأبيض، والتحق عصر الورق بعصر الحجر، فمن كتَب على لبنان أن يكون خياره فقط بين رجلين تقاتلا بكل الوسائل والمَدافع والمعارك؟ هل هذا هو الردّ على الخطر المحيق بلبنان، أو بالمسيحيين خصوصاً؟
المسيحية المشرقية، أو بالأحرى المسيحية والمشرقية، تراجيديا دائمة لا تكفّ عن إفراز الفصول، بلا خواتم. أقسى حروب لبنان، في السياسة أو في القتال، كانت بين المسيحيين. وقد كان المسلمون يتمنّون، لو أن مسيحيي لبنان، يوفّرون على أنفسهم وعلى بلدهم، المزيد من الخراب الذي لا يعوّض ولا يردّ. خراب الهجرة ودمار النفوس ونشر البُغض وتعميق الكره وحفر الحقد. لكن التجارب علّمتنا أن لا أمل في آفاق المشرق. سوف يتقاتلون حتى آخر مهاجر. وثمة قصيدة لنزار قباني كتبها 1975 وهو يشاهد كيف يُدفع لبنان إلى المقصلة، عنوانها "سوف تقتلونه وتندمون". لكن الندم أمر مشكوك فيه. الندامة فقط لمن يخاف الله.
اقترع التونسيون وكأنهم في فرنسا وليسوا في هذه المساحة التي كنّا إلى الأمس نسميها "الوطن العربي" وندلّلها "من المحيط إلى الخليج" وسوف تطرد تونس على فعلتها هذه. لقد خانَت العرب في عمق فكرهم وثقافتهم. أولاً أبعدت رئيسها من دون قتيل واحد، والآن تقترع لرئيسها الجديد من دون مذبحة واحدة. ما هذا يا إخوان؟ وكيف يسلَم الشرف الرفيع من الأذى من غير أن يُراق على جوانبه الدم.
أحفادنا في تونس تليق بهم حقوق الخيار. عشرون مرشحاً بينهم امرأة. أما حصر الأمر بمرشحين فيكون في الدورة الثانية. في الأولى يحق لكل من هو لبناني منذ أكثر من 10 سنين. بمن فيهم 350 ألف مجنّس. دفعة واحدة مثل أفلام "الروكسي": فيلمان دفعة واحدة.


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم