السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

الاقتصاد الايراني: من العقوبات الى التنمية

الدكتور لويس حبيقة
A+ A-

تعتمد العقوبات دولياً لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية أو غيرها. لم تكن النتائج باهرة حتى اليوم من ناحية تحقيق الأهداف، كما تشهد عليه العقوبات المزمنة ضد كوبا وكوريا الشمالية وغيرهما. معظم هذه العقوبات وضع من جانب واحد أو جانبين على الأكثر ولم يكن دوليا. تعود العقوبات الى الواجهة اليوم مع استمرارها فيما يخص الموضوع النووي الايراني، كما تلك الحديثة جدا الموضوعة ضد روسيا من أميركا وأوروبا بشأن الوضع الأوكراني. من المبكر درس نتائج العقوبات على الاقتصاد الروسي، الا أن تقييمها على أيران أصبح ممكنا بعد سنوات من التطبيق المستمر. لا شك أن ايران أظهرت حيوية كبيرة وصمود مدهش في مواجهة العقوبات الدولية، الا أن النتائج السلبية واضحة جدا وأهمها التضخم الكبير الذي تعاني منه البلاد.
يعتمد الاقتصاد الايراني على العديد من القطاعات في مقدمها النفط. هنالك فترات مهمة ثلاث تصف تطور القطاع وبالتالي الاقتصاد بشكل عام. في فترة 1908 \\ 1959 كان الانتاج النفطي مهما، الا أن حصة ايران من الصادرات لم تكن كبيرة بسبب سيطرة الشركات الدولية العملاقة على الانتاج والتسويق. حصل بعدها تأميم القطاع وتأسيس ما عرف بشركة ايران النفطية. تطورات الأوضاع في القطاع النفطي تعكس تغير العلاقات السياسية بين الدول الصناعية والدول النامية خلال زمن الاستعمار والاستغلال. في فترة 1960 \\ 1978، حصلت تطورات كبرى في الأسواق نتيجة الأوضاع السياسية والأمنية والعسكرية الخطيرة في منطقة الشرق الأوسط التي ظهرت جليا في مقاطعة الدول الغربية نفطيا بسبب دعمها المطلق لاسرائيل. ارتفعت أسعار النفط وبالتالي ارتفعت الايرادات النفطية الايرانية من صادراته. الفترة الثالثة المهمة هي 1979 حتى اليوم، أهم أحداثها المعروفة حصول الثورة الايرانية وانعكاساتها الكبيرة ليس فقط على المنطقة وانما على العالم أجمع. حدثت أيضا الحروب مع العراق التي نزفت المنطقة كلها ليس فقط اقتصاديا وانما سياسيا وأمني وعسكريا واجتماعيا ودينيا أيضا. وقعت العقوبات على ايران التي ما زالت تمنع عمليا اطلاق عمليات النمو في كل دول المنطقة. لم يصبح النفط مهما في تنمية الاقتصاد الايراني الا بدءاً من الستينات. هنالك وعي حقيقي لكيفية انفاق أموال النفط وتأمين استقرار الايرادات في ظروف تقلب كبير في الأسعار ظهر جليا عبر تأسيس صندوق لهذه الغاية كما فعلت النروج منذ سنوات.
لماذا يهتم علم الاقتصاد بالخلافات والتطورات السياسية في العالم؟ هنالك أسباب عدة أهمها أن الخلافات التي تنعكس أمنيا وسياسيا تؤثر سلبا على التنمية. هنالك أهداف تنمية دولية وضعت من قبل الأمم المتحدة في سنة 2000 يجب الوصول اليها في سنة 2015 التي لم تعد بعيدة. بسبب الحروب المختلفة في كل بقاع الأرض، ما زالت الأهداف بعيدة المنال وبالتالي تستمر أوضاع الفقراء في التعثر وربما الانحدار في بعض الدول. لا يعالج علم الاقتصاد الأسباب السياسية للتوتر، انما يعالج انعكاس الخلاف السياسي والأمني على الأوضاع الاقتصادية وخصوصا الفقر. يهتم الاقتصاديون بالقرارات التي تتخذ لتحسين الأوضاع بحيث لا تسيء الى الطبقات الشعبية والمناطق الريفية وبالتالي تجعل الأوضاع الأمنية والسياسية أسواء. ليست كل القرارات الاقتصادية صائبة، انما المهم أن لا تسيء الى الأوضاع ان لم يكن بالامكان تحسينها. من ناحية أخرى، تحسن الأوضاع الاقتصادية يساهم بشكل مباشر في تخفيف حدة النزاعات السياسية والأمنية وبالتالي يمنع تفاقمها وامتدادها الجغرافي.
تؤثر الخلافات السياسية الداخلية كما الدولية والاقليمية على مستويات الفقر خاصة اذا انعكست على الأمن والسلام. تؤثر على هروب الناس من أماكن الى أخرى أكثر تطورا حتى لو كانت التكلفة عالية. نشهد دوريا هرب عشرات وأحيانا المئات من مواطني دول المنطقة وأفريقيا وغيرها الى الدول الغربية على ظهر سفن غير آمنة مما يحدث العديد من الضحايا المؤسفة. يهرب المواطنون من الفقر واليأس ويحاولون الهروب الى العالم الآخر في استراليا وايطاليا وغيرهما. ما سبب الأوضاع التعيسة في دول المصدر؟ حتما الحروب والخلافات السياسية على كل شيء التي تنعكس موتا وفقرا. لا بد لعلم الاقتصاد من أن يهتم بتحسين الأوضاع الاقتصادية في كل الدول بحيث تخف الهجرة القسرية المكلفة المفروضة على الفقراء.
من الناحية الايرانية وبعد سنوات من العقوبات القاسية التي أحدثت وتحدث توترات كبرى ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط وانما عالميا أيضا، كيف يمكن تقييم النتائج؟
أولا: المدهش هو استمرار الاقتصاد الايراني في تحقيق نسب نمو مقبولة بالرغم من العقوبات والحصار والضغط الخارجي الكبير. كان النمو ايجابيا أي 3% في 2011 \\ 2012، لكنه انعكس انحدارا قدره 5,8% و 1,7% في السنتين التاليتين. لا يرتبط النمو فقط بالأوضاع السياسية وانما أيضا بأسعار النفط المتقلبة. تشير توقعات صندوق النقد الدولي الى عودة الاقتصاد الى النمو بدأ من هذه السنة بسبب العلاقات المتحسنة بشأن النووي وتحرير مليارات الدولارات من الأموال الايرانية المحتجزة في المصارف الغربية.
ثانيا: يمكن اعتبار نسب البطالة مرتفعة بالمقياس الغربي أي في حدود 13% وهذا ليس بعيدا عما نشهده في بعض الدول الأوروبية في ظروف حالية عادية. قدرة الاقتصاد الايراني على استيعاب عمالة عديدة في ظروف خطيرة هي حقا مدهشة، وربما تكون نسب البطالة مرتين أكثر في دول أخرى في ظروف مشابهة.
ثالثا: بالرغم من الظروف الصعبة، ما زالت نسب الادخار من الناتج أعلى من نسب الاستثمار. هنالك سببان ممكنان، قدرة المجتمع على الادخار في ظل أسعار نفط ومواد أولية مرتفعة، وغياب الفرص الاستثمارية في ظروف تشنج كبيرة كادت تشعل حروبا في فترات عدة.
رابعا: ادارة الملف المالي جيد نسبيا أي أن العجز، عندما حصل في بعض السنوات، كان محدودا جدا. هذا يشير أيضا الى التقشف في الانفاق في ظروف حصار اقتصادي صعب. في بعض الدول الأخرى وفي ظروف مماثلة، تفقد الدولة قدرتها على ضبط الانفاق لتلبية الحاجات الشعبية، الا أن هذا لم يحصل في ايران.
خامسا: ميزان الحساب الجاري فائضا بفضل الصادرات النفطية التي استمر جزءا منها. بلغ فائض الحساب الجاري 60 مليار دولار في سنة 2011 \\ 2011 وانحدر الى ما بين 20 و 30 مليار دولار في السنوات اللاحقة. مكن هذا الواقع المصرف المركزي الايراني من رفع الاحتياطي النقدي الى مستويات مدهشة تقارب المئة مليار دولار.
اذا اعتبرنا ما سبق انجازات ضمن الظروف الصعبة، لا بد من التنويه بقدرة المجتمع الايراني على المواجهة والتضحية. هذا طبعا ليس كل شيء، اذ هنالك معاناة اجتماعية ومعيشية يمكن وصفها بعاملين مترابطين هما التضخم وسعر صرف النقد. بلغ مؤشر أسعار الاستهلاك 20% في سنة 2011 \\ 2012، 41% في السنة التالية و 22% فيما بعد وهذه النسب مرشحة للاستمرار. انحدر سعر صرف النقد الى النصف بدأ من سنة 2012 ما يشير الى تدني أوضاع الفقراء والأحوال المعيشية بشكل عام. هنالك وجع كبير ربما لا يظهر الى العلن، لكنه حكما موجود ولا بد من انتظار الفرج بعد الاتفاق النووي النهائي. يحصل التضخم المرتفع بسبب العقوبات وارتفاع أسعار المحروقات كما بسبب السياسة النقدية المنفلشة التي رفعت الكتلة النقدية كثيرا بدأ من سنة 2012. لا يمكن لاحد أن ينكر وجود فساد يتعزز اجمالا في الظروف الصعبة على حساب الفقراء، ويستفيد منه بعض السياسيين كما أصحاب الأخلاق السيئة. في مؤشر الشفافية العالمية، تقع ايران في المرتبة 144 من أصل 175 دولة تم تقييم فسادها وهذا متدن جدا ويجب معالجته.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم