السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

"مكتبة بيسان" في شارع الحمراء و"غبرة الكُتب" التي تأوي القارئ

المصدر: النهار
هنادي الديري
A+ A-

القهوة اللذيذة جاهزة باستمرار في مكتبة بيسان القائمة في شارع المهاتما غاندي في الحمراء. "ركوة رايحة وركوة جايي". والروّاد الذين أصبحوا مع الوقت أفراد عائلة واحدة "يُمزمزونها" بهدوء فيما يبحثون عن الكُتب التي "سينقلونها" معهم إلى المنزل، فيُسافرون على "متنها" ليعيشوا حيوات جديدة، ولم لا يعطون حياتهم أبعاداً إضافيّة. والكُتب المُنتشرة "ع مدّ النظر" على الرفوف تضع أبطالها ، بكل سرور، في تصرّفهم.
هنادي الديري
أمّا صاحب المكتبة، عيسى أحوش، فيمضي ساعات طويلة خلال النهار، مُجيباً على الهاتف، مؤمّناً طلبات عشرات زبائن من مُختلف أرجاء العالم العربي، ، بالإضافة إلى التواصل المُباشر مع الذين يزورونه في المكتبة. الهاتف في هذه المكتبة "المسكونة بأرواح الكُتُب النائمة" لا يتوقف الهاتف عن الرنين. و"ما بيلحق أحوش يقوم" عن كرسيه ليبحث عن كتاب أو آخر، يجلس مُجدّداً وقد "فَرَضَ" الهاتف حضوره فجأة!
في هذا المكان الذي يستريح على المُخيّلة، يتعامل عُشّاق الكتاب مع أحوش وكأنه الصديق الذي يفهم عوالمهم الداخليّة. و"يسرحون ويمرحون" في المكتبة وكأنها، بدورها، الصديقة التي تتماشى ومزاجهم، ولم لا إنفعالاتهم في الّلحظة، فتحضنهم تارة بين صفحات الكُتب، وتؤويهم تارةً أخرى بين أروقتها، بعيداً من العالم الخارجي.
أحوش يملك "مكتبة بيسان" منذ العام 1985، ولكنه في المهنة منذ العام 1978. يُعلّق، "بدأت العمل (في المهنة) في أول يوم لي في الجامعة". تخصّص في العلوم السياسيّة، "ولكنني لم أعمل سوى في الكتاب. أنا شخصيّاً إخترت مهنتي". يُضيف، "ما من أحد في مُحيطي يملك مكتبة. إخترتها مهنتي من دون أن أتأثر بأحد. مع الإشارة إلى أنني لا أمارس قناعتي الشخصيّة على الكتاب. ما عندي حظر على أي كتاب. وما عندي موقف من كتاب!...كيف نُصارع الحرب؟ بواسطة الصراع الفكري". ويقصد المكتبة-الملاذ، "كل من يبحث عن الكُتب الحديثة في إطلالتها. مصادرنا مُتنوّعة. من مُختلف البلدان العربيّة".
قصّته المُستمرّة منذ سنوات مع الكتاب، "منّا قصّة سهلة". هل يُحدّق إليه المَلل أحياناً عندما "تتراكم" الساعات و"تتكدّس" الأيام، وهو يجلس وسط أبطال الكُتُب ومُخيّلة الكُتّاب "المسكونة" ببعض هواجس مُتعاظمة؟ "في إيام بتمرق بيكون في عوامل تانية بتزهّقك! ولكن بزهق أكتر إذا ما شمّيت الكتاب وإذا ما جيت على المكتبة. هي حالة عشق. بالحدّ الأدنى هي حالة عشق. حتى أنني أحبّ غبرة الكتاب".
وفي هذه المهنة يجد المحظوظ الذي إختارها سبيلاً للحياة، "العديد من الأمور التي لا يجدها في مهنة أخرى. منها نوعية الناس الذين أتعامل معهم، فضلاً عن إختلافهم بعضهم عن بعض. ويُمكن أن ينتموا إلى عالم التاريخ أكثر منه عالم السياسة...جوزف حرب مثلاً كان صديقي وإستمرّت صداقتنا حتى وفاته، فشوفي شو الكتاب بيقرّب". يُعلّق، "نوعية الناس الذين ألتقيهم في المكتبة تجعلني الرابح الأهم! يُقدّمون إلي الكثير. آخذ منهم الكثير من المعلومات. قناعتي واضحة وتُفيد ان المسألة لا علاقة لها ببيع الكتب والجزء المحوري في القصّة هو التواصل مع الآخرين. حتى وإن إختلفت مع الزبون حول بعض أفكار لا بدّ من أحبه من الداخل". يضحك مُعلّقاً، "إشتهرت المكتبة بفنجان القهوة!".
في البدايات، "كُنا نُركّز أكثر على البيع بالجملة. ولاحقاً صرنا نُفكّر بالقارئ فركّزنا على البيع بالمفرّق". المهنة، "كتير صعبة. تزدهر المكتبة عندما تكون السياحة عامرة. العرب بيعرفوني بعد أكتر من اللبنانيين". يروي، "تعرّضت للكثير من الضغط في مهنتي. فكانت إنتكاسات. ولكن اليوم، خلص، إنتهت المرحلة الصعبة".
الحديث معه "ينساب" بلا تكلّف في عطلة نهاية الأسبوع، وتحديداً يوم الأحد، وتتخلّله "رشفات" من فنجان القهوة، أضف إليها أسئلة الروّاد الذين يبحثون عن كتب مُحدّدة يختارونها "زوّادة اليوم"، فيُرشدهم أحوش وينقل إليهم بعض معلومات. ولا ننسى الهاتف!


ميشال غازي يرتاد المكتبة على قوله منذ 20 عاماً، "هيدا إذا مش أكتر...شو يالّلي خلاني إرجع على المكتبة كل هذه السنوات؟"، يبتسم قبل أن يُجيب، "تأشرب القهوة!"، فيُضيف، "يشعر الزائر في هذه المكتبة وكأنه في منزله. وكأنها مكتبته الشخصيّة!". يُعلّق موجّهاً الحديث إلى عيسى، "مكتبتك مثل الفصول ال4 يا أستاذ عيسى!".
المكتبة التي تسمح للزائر بأن "يُبحر" عبر الزمن كما تُلغي المسافات بين الناس، إنتقلت إلى الحمراء، بفعل الحرب، في العام 1992، "الحرب إختارت ظروف المكان!". يُعلّق، "فتحت المكتبة وفي حوزتي 700 دولار فقط! المكتبة حلمي. ونحن لسنا مجرّد مكتبة بل نملك دوراً للنشر ونعمل في في التعهّدات المطبعيّة. أحياناً نركّز على كتاب واحد فنشتري منه كميّات كبيرة. في هذه المهنة لا بدّ من توزّيع الأذرع على طريقة العنكبوت كي يتمكّن الإنسان من الإستمرار".
السنوات مرّت فكانت الحكمة "المُتوارثة" من كاتب إلى آخر، وكان الغموض الذي يكتنف سحر الكتاب وإن لم نغوص بين دفّتيه بعد، "الجيل الجديد؟ يقرأ بدوره. بعض الناس لم يتأثروا بوسائل الإتصالات الحديثة. التكنولوجيا لا تقف عائقاً أمام الكتاب. العائق هو عدم وجود البنية الثقافيّة في المنطقة التي نحن فيها. إذا المدرسة والحكوما لم يضطلعا بدور محوري في هذه البنية...".
الكتاب الذي يليق به أن "نخسر" حياتنا لمزاجيّته، "هو النضوج. الأفكار تتخمّر في الرأس مع الكتاب. الوسائل الثانية تُحوّلك أداة تلقي سريعة. مع الكتاب نغوص فتتخمّر تالياً الأفكار".
تفتح "مكتبة بيسان" أبوابها، "من التاسعة صباحاً حتى التاسعة مساءً. قبل الظهر أتعرّض لضغط حقيقي من المُتصلين على الهاتف".
أولاده ال5، "يعيشون حالة عشق للمكتبة ولكنني أترك لهم الخيار في ما يتعلّق بمستقبلهم. هذه قناعتي في الحياة. أنا إخترت ماذا أريد من الحياة، وأترك لهم حريّة الخيار. ولكنني أتمنّى أن تستمر المكتبة".
ومن خلال المكتبة التي تضجّ بأفكار الكُتّاب وفي الوقت عينه تستمدّ قوّتها من الصمت، "يعيش الإنسان كل المشاكل التي تجتاح العالم العربي...يعني زاروب زاروب، على إعتبار انني على تواصل مُباشر مع الناس ولا أعيش في برج عالي. وفي الحقيقة ألمس من خلال نمط الكتُب التي يقرأها الناس ما يحدث في المنطقة. بمعنى ان خيارات القارئ تعكس حوادث المنطقة. والناس اليوم يُعبّرون عن رفضهم لما يحصل في المنطقة من خلال إختيار الكُتب التي لا علاقة لها بالعنف".ه
هل أجمل من أن "نخسر" حياتنا للكتاب؟
[email protected]


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم