الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

نور الدين الصايل أنقذته السينما من الحياة!

المصدر: "النهار"
A+ A-

المهتمون بالشأن السينمائي في المغرب يترقبون حالياً لحظة الكشف عن إسم الشخص الذي سيخلف نور الدين الصايل في رئاسة المركز السينمائي المغربي. فالصايل الذي تمّ الإعلان فجأة عن مغادرته الصرح السينمائي الذي ادخله الى الحداثة، سيترك فراغاً كبيراً يوم يوضب أمتعته ويتنازل عن المنصب الذي شغله طوال 11 سنة. فتح وزير الاتصالات المغربي باب الترشيح، ولكن لم يعُرف بعد مَن الذي سيحل مكان الصايل.


الصايل، هذا الطنجاوي البالغ من العمر 66 عاماً، عاشق السينما الأبدي ومدمن الفلسفة، رفع من شأن السينما المغربية وساهم في نهضتها، فباتت تنتج أكثر من 20 فيلماً سنوياً، وإن كان عدد منها لا يصلح للمشاهدة. على مدار أكثر من عقد من الزمن، ظلّ الصايل رجل السينما الأول في المغرب، وكانت محاولات اطاحته من المقربين من "الاخوان المسلمين" كثيرة ومتكررة وشخصية ــ وعنيفة احياناً. لكنه لم يقبل الانصياع للابتزاز. أيّ مستقبل للسينما المغربية من بعده، وخصوصاً ان مرشحي التيار الديني المتشدد يتربصون بالمنصب؟ ايّ استراتيجيا سينمائية للمغرب بعد انسحاب الصايل؟ هذه من الأسئلة التي تؤرق اليوم العديد من المخرجين والمنتجين ومديري المهرجانات في المغرب.
طوال فترة رئاسته، كان يقال عن الصايل انه موهوب في صناعة الاعداء. بمعنى انه لا يساوم ولا يتنازل عن موافقه التي تكونت عنده دائماً نتيجة وعي فكري وثقافة معرفية عالية، الأمر الذي كان معدوماً عند خصومه الذين لطالما ارادوا جرّ المغرب الى اتجاهات اخرى. بعض هؤلاء كان يحلم بتضييق الخناق على الفنّ الذي لا يعيش من دون حرية. انتشل الصايل السينما المغربية من وحول "سينما المناسبات" التي تطل برأسها بين الفينة والفينة قبل أن تعود الى سباتها العميق، في مجتمع حافل بالتناقضات، يترجح بين التقليد والحداثة، بين الانفتاح على الغرب والتمسك بأصول وأعراف اسلامية. كان الصايل صدامياً في لحظات وقادراً على الاستيعاب في لحظات اخرى. علاقته عبرت القارات وصداقاته قفزت فوق الحدود الجغرافية. "كثيراً ما أتخذ قرارات، إمّا تنال الاعجاب وإمّا لا. نتيجة ذلك، تصبح، ولمرحلة من الزمن، رجلاً مكروهاً عند الذين لم تعجبهم قراراتك. اذا كنت تريد المحافظة على حسن علاقاتك مع الجميع، فالأفضل الاّ تأخذ أيّ مسؤولية على عاتقك، وان تذهب للعيش في الصحراء، وهذا ليس ما أطمح اليه، كوني مناضلاً".
أسس الصايل جمعية نوادي السينما في المغرب، وترأسها طوال عشر سنين (1973 - 1983)، وساهم في "مغربتها"، قبل أن تحمله الفرص الى عوالم التلفزيون، حيث اكتسب خبرة متكاملة، من خلال عمله في المحطة الفرنسية المشفرة، "كانال بلوس أوريزون"، في منتصف الثمانينات، مستفيداً من منصبه ليشرع الأبواب أمام سينمائيين من بلدان لا مراكز ثقل لها على الخريطة السينمائية الدولية. بيد أن مشروع انقاذ القناة الثانية المغربية جاء به رئيساً، ثم عُيِّن مديراً للمركز السينمائي المغربي. هذا المتحدث اللبق والسينيفيلي الأكول، جاء الى "المركز" وفي رأسه مخططات كبيرة، تحقق جزء منها، فجعل السينما المغربية تهبّ هبة كبيرة، مثيرة حسد بلدان عربية كثيرة لديناميتها المفاجئة. اراد البناء على نموذج انتاجي مستورد (مستوحى بتصرف من الصيغة الفرنسية الشهيرة "سلفة على الايرادات")، وضبط أصول السينما "حتى لا يكون بناؤها مشوهاً".
في طنجة، كنا نراه يساير المبتدئين، وفي مراكش يرافق المشاهير. المهرجان الأول كان نقيضاً للثاني على كل المستويات، لكنه أجاد الادارة في كلا الموقعين. يقول انه تعلم الحياة متفرجاً على الشاشة المستطيلة وانه كان هناك تكامل بين مهنته مدرّساً للفلسفة والسينما، ويصر على أن هذا الفنّ "أنقذه من الحياة". "كانط من الذين أثّروا فيَّ كثيراً عندما كنت في مرحلة الدراسة. الفلسفة والسينما تشاركتا في تأهيلي. عندما عبرنا في كتابات سبينوزا، وقابلنا هيغل، وطوّرنا سبل المعرفة مع نيتشه، وتعلمنا أسس تطبيق نظريات فرويد، وعدنا بعد هذا كله الى النصوص التأسيسية للاسلام الحقيقي، ودائماً باتباع منطق المسافة، هذا كله يجعل الانسان أكثر تطوراً".
في مقابلة سابقة مع "النهار"، كان يشكو من علاقة الغرب بالسينما الافريقية، كاشفاً انه ينبذ منطق "تحفة كل عشر سنين"، ويعمل خلافاً له. تلك الصيغة التي تهم القوى السينمائية الكبرى في العالم ان تحافظ عليها لتحمي مصالحها. "يريدون وضع اليد على سوقك السينمائية ومن ثم التصفيق للعبقرية التي اخترعتها، علماً ان هؤلاء، بدورهم، ليسوا أكثر عبقرية منا في مجال العدد، لكن الفرق بيننا وبينهم أنهم ينجزون 500 فيلم كل عام تكسح أسواقنا وتعود عليهم بالعائدات المالية الضخمة جراء استثمارها في صالاتنا. باختصار، يضعون اليد على خيالنا وإمكان أن يكون لنا تعبير حرّ ومستقل. أن ينتج أحد بلداننا 3 أفلام كل 12 عاماً ويحصل على جائزة كبيرة في مهرجان برلين، هذا جيد للفنان. لكن في المسألة شيء من الهراء، لأن هذا يعني انه ليس عندنا ادنى فكرة عن كيفية دوران العجلة السينمائية العالمية. هذه مقاربة انتروبولوجية غربية للسينما: بلد لا يخرج منه شيء منذ 20 عاماً، فجأة يأتيهم بتحفة فنية!".
وفق الصايل "بدلاً من أن تعطي الفقير سمكة كل يوم، فالأفضل أن تعلّمه الصيد". يتابع: "نحن الآن قد تعلّمنا الصيد. لكن المشكلة أن ثمة الكثير من الأنظار السلبية على كل سياسة مستقلة. تخيّل أنهم في اللحظة التي بدأنا نتعلم فيها الصيد، أفرغوا البحر من المياه. قوة الغرب كامنة في كونه يحدد قوانين السوق. يقولون لنا: "عليكم أن تنظّموا الأمور بأنفسكم، لديكم مواهب والخ". ثم عندما ندخل في مرحلة الانجاز، ينتبهون الى ان هذا الشيء قد يعود عليهم بالضرر، وهذا صحيح طبعاً. ما يهم الغرب هو أن يقولوا لنا "انجزوا تحفة مرة كل عشر سنين، لكن انتبهوا: لن تكون لكم الحصة الكبرى من السوق المحلية منذ اللحظة الاولى". ولكن نحن نريد ان تكون لنا حصة من السوق ليس فقط في بلادنا بل في بلادهم كذلك. لِمَ لا. واذا قيل لنا لماذا، فسنكرر: لِمَ لا؟".
"ليس هناك خيال أكثر تطوراً من السينما"، كان يقول الصايل معتبراً ان "قلة الطموح" هي العدو الأكبر في المغرب وأفريقيا والعالم العربي، اذ يجري اخفاء الفشل خلف عبارة "ضيق الامكانات"، وعلى الرغم من ان ضيق الامكانات قد يكون من الأسباب الجوهرية، فسرعان ما يتحول ذرائع. "يجب الا نجرّد أنفسنا من الطموح ونسلّم أمرنا الى الحتمية والعبث، ونذيّل كلامنا دائماً بـ"ما الفائدة من فعل هذا أو ذاك؟". عندي، أن كل مباراة لم تنته بعد، لا نستطيع أن نعتبرها خاسرة أو رابحة".
قبل الذهاب الى المكتب صباحاً، روى لي انه يحتاج الى ساعة ونصف الساعة من القراءة المتواصلة. ثم لاحظ وأنا أسأله عن الأشياء التي تبعث فيه السعادة انه ليس شخصاً معقداً. "أشياء بسيطة قد تشكل مصدر بهجة عندي". كان الصايل ضدّ النموذج الأوحد، ويقول انه عندما يفكر البعض مثل البعض الآخر، فهذا يعني أن لا أحد يفكر.
الصايل وكذبة السينما النظيفة:
"لا أتفهم المنع الكلي لفيلم. لماذا تمنع فيلماً ما دام يُعرَض في صالة وما دام مشاهدوه قد دفعوا المال وقصدوا الصالة لمشاهدته. الا اذا كان في الفيلم تحقير للقيمة الانسانية أو تحريض على العنف والكراهية العنصرية والاتنية. حتى في الولايات المتحدة، قد يحدث أن تعترض جمعية سرية على ظهور نهدي امرأة في فيلم. مع ذلك كله، ان يكون هناك ناس ضد هذا الشيء، فهذا يعني أننا نعيش في بلد حيّ. أحترم رأي الآخر، ما دامت المناقشة على مستوى معين. اما اذا تحولت المناقشة عنفاً جسدياً وابتزازاً، فإننا نكون بذلك قد خرجنا على قواعد اللعبة. أحترم رأي الآخر، حتى لو كان هذا الآخر جاهلاً. المسألة بهذه البساطة: يجب منح هذا الآخر الثقافة المطلوبة. على الذي يعترض على شيء ما، أن يكون مطلعاً على هذا الشيء. كثر يعترضون على أفلام لم يشاهدوها. في امكانك أن ترفض مشاهدة فيلم، لكنك لا تستطيع منع الآخرين من مشاهدته".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم