السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

صديقي العزيز غبريال غارثيا

المصدر: "النهار"
عقل العويط
عقل العويط
A+ A-

لن أرثيك؛ فلا تتعجّب.


لقد جرت العادة في مناسباتٍ كهذه، أن يتخاطب الناس بالرثاء، وإظهار الأسى، وتمجيد الآثار العظيمة التي يتركها العظماء. سأتخطى هذا كلّه في مناسبة رحيلكَ، لأكتب إليكَ مهنئاً – نعم مهنئاً أيها الصديق العزيز -، راجياً أن يصلكَ كتابي هذا، مرسَلاً إليكَ باليد، من بلاد الواقعية المجنونة هذه، المصابة بلعنات الأحلام المجهضة وآثام التاريخ والأقدار والآلهة والبشر؛ وأنتَ حيث أنتَ: رافلاً بالسحر غير القابل للرشق بالتكفير ولا الرجم بالحجار.
لبيان الحال، أهنئّكَ على رحيلكَ لأسبابٍ عدة، في مقدّمها أنكَ يمكنكَ أن تغادر مطمئناً، لأنكَ جعلتَ للواقع السحري في كتاباتكَ، حصناً منيعاً لا يرقى إليه طلسم الواقع الحقيقي، ولا شرّه وفساده، ولا زوالٌ كالزوال الذي يكاد يعتري كل شيءٍ جميل، في هذه الفانية؛ وخصوصاً عندنا في بلادنا المشرقية، حيث الجنرالات والكولونيلات والليالي والعزلات، هم أفظع وأقوى من أن يؤسر رعبهم الجحيمي في رواية، ولا في قصيدة، أو في عمل فني.
مرةً ثانية، هنيئاً لكَ.
أما السبب البعيد الكامن وراء تهنئتي لكَ بهذا الرحيل، فهو أنكَ نجوتَ من التعاطي مع واقعنا غير السحري، هنا، الذي كان ليبخّس عبقريتكَ في كتابة الرواية والقصة، ويتفّهها، لعجزها عن منافسة الواقع الواقعي، في اقتناص جوهر الوجود المأسوي للأمكنة والبلدان والشعوب والأشخاص والحالات. أهنئكَ، لأنكَ نجوتَ منّا؛ من واقعٍ كواقعنا، كان ليدمّر كل سحرٍ مكنوزٍ في كتاباتكَ الخلاّقة، ويجعله كوميديا عادية أمام مسوخ الواقع العربي المهول ومآسيه غير القابلة للأفول.
عزيزي غابو،
عندما وصلنا خبر رحيلكَ في ساعةٍ متأخرة من ليل أمس، كان الوقت السياسي والمجتمعي في بلادنا قد أخلد إلى نوعٍ من الهدوء المفخّخ بألف ويلٍ وويل، ليعود يستيقظ بكامل أبهته الوحشية، مستأنفاً كابوس العيش غير الأنيق.
نحن، يا غابو، كما تعلم، لا نحتاج إلى مناسبةٍ، كمناسبة الجمعة العظيمة لنحتفل بدروب الجلجلة. حياتنا كلها، أيها الصديق، جلجلجة متواصلة. وإذا كان المسيح قد انتهى بعد صلبه، إلى القيامة، على ما تقول القصة الدينية، مدحرجاً الحجر الثقيل عن القبر، فإننا لا نرى، أكاد أقول، – ولا حتى في الكتابات العظيمة عندنا - بصيص ضوء يَعِد بقيامة هذه البلاد من موتها العظيم.
أرأيتَ، لماذا أهنئكَ، يا غابو؟
تصوّر، أنكَ عشتَ هنا؟ تصوّر فقط أنه كان ينبغي لكَ أن تتحدى الواقع الواقعي، في لبنان وسوريا وفلسطين ومصر والعراق، بواقعية كتاباتكَ السحرية، أكنتَ لتستطيع أن تنتصر بالكتابة على هذا الواقع؟
أخشى أن لا، يا غابو. والسلام!

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم