الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

كافيه ميلانو

سمير عطاالله
A+ A-

كنا أربعة من قدامى "النهار" ظهر الخميس في مطعم "كافيه ميلانو": كلوفيس مقصود، وفيق رمضان، رفيق خليل المعلوف وأنا. سألت الثلاثة الذين يقيمون في واشنطن منذ أربعة عقود، إن كانت العاصمة الأميركية مهتمّة بانتخابات الرئاسة في لبنان، فتطلع الثلاثة احدهم في الآخر، ولم يجيبوا. رويت لهم ما حصل معي قبل يومين في أحد مطاعم نيويورك. كان إلى الطاولة المجاورة رجل من اسكوتلندا وزوجته، وبما أن كل غريب للغريب نسيب، فقد تبادلنا بعض الكلام، وخصوصاً حول استفتاء الاستقلال المقبل في ديارهم. وقلت ان الثأر صدأ يدمّر البلدان. مثل كيبيك، مثل اسكوتلندا. كلاهما ينتمي اليوم إلى بعض أفضل البلدان في العالم، ولا يزالان يريدان الانفصال بسبب ما حدث في عصور الجهل وزمن القلاع. إلى أين ستذهب كيبيك الفرنسية وهي في قلب أميركا الشمالية؟ وإلى أي لغة سوف تذهب اسكوتلندا في عالم يتحدث الإنكليزية في القطب وفي الصحارى وفي الهملايا؟


رأى الرجل الاسكوتلندي مرارة واضحة في كلامي عن عبَث الانفصال، فسألني من أين أنا، فلما أجبته، تساءل في عفوية مطلقة: وهل لبنان لا يزال بلداً؟ (Is Lebanon still a Country?). أذهلني السؤال وأذهلني أكثر أنني أُحرجت في الإجابة: ماذا يقصد؟ بأي معنى؟ هل يقصد إن كان لا يزال بلداً واحداً؟ بلداً مستقلاً؟ بلداً متماسكاً؟ بلداً بقوانين واحدة ودستور واحد وأمن واحد؟ هل يرفع أهله علماً واحداً؟ هل يعزف النشيد الوطني فوق نصف أراضيه؟
كنت هممت بأن أعطي الرجل الاسكوتلندي درساً في ضراوة الانفصال، فإذا به يطرح عليّ سؤالاً بسيطاً ومباشراً، عن معاني الوجود المتوافق عليه بين الأمم:
Is Lebanon still a Country?
وقد منعه تأدّبه الواضح من أن يُكمل: أم أنه لم يعد كذلك؟
لم يخطر لي مرة أن الإجابة عن مثل هذا السؤال المبسَّط إلى هذا الحد، سوف تكون معقّدة إلى هذه الدرجة. رفع صائب سلام بعد انتهاء ثورة 1958 شعاراً طبيعياً في حياة الشعوب: لبنان واحد، لا لبنانان. هل السياسة الخارجية التي يمثلها تمّام سلام اليوم هي سياسة وزارة الخارجية منذ سنوات؟ هل الرؤية الداخلية واحدة إلى استقلال لبنان ووجوده ومصيره ودستوره وتركيبته؟
Is Lebanon still a Country?
ثمة قاعدة قديمة مفادها أن حل أي مشكلة يبدأ بتبسيطها. بهذا المنطق اقترح الجنرال ميشال عون قبل سنوات مصالحة مع سوريا على طريقة المصالحة بين شارل ديغول وكونراد أديناور. الأول كان منقذ فرنسا ومحرّرها من الاحتلال الألماني خلال الحرب، والثاني رفع ألمانيا الغربية من تحت الركام، وجعلها أحدى أهم دول العالم في أقل من 15 عاماً.
بدأ الحوار في كولومبي في أيلول 1958 عندما دعا ديغول المستشار الألماني إلى ما وصفه بـ”اللقاء التاريخي بين هذا الفرنسي العجوز وهذا الألماني العجوز جداً”. ردَّ أديناور مبتهجاً بلقاء “هذا الفرنسي المستقيم، الصالح، والأخلاقي”.
كان ذلك اللقاء الأول من 40 اجتماعاً بين اثنين من كبار بُناة أوروبا، قبل أن يتقاعد الألماني العام 1962. يغيّر الكبار في مصائر الشعوب والأمم والقارات. حلّ ديغول محلّ الماريشال بيتان، الذي سلّم فرنسا للاحتلال الألماني، وحلّ أديناور محلّ هتلر، الذي سلّم ألمانيا لمغامرات الرُكام في كل اتجاه. كان لا بد من رجلين حققا إنجازات عظمى لكي يقنعا شعبيهما بتجاوز ضغائن حربين عالميتين وعقود طويلة من النزاعات المختلفة.
السلم ليس أقل صعوبة من الحرب. المصالحات تحتاج إلى سعة صدر، ورؤية بعيدة المدى، وإلى نبذ الأنانيات والعنجهيات. لم يكن أي حوار ممكناً بين رجل أَنوف مثل ديغول، ومتغطرس مثل هتلر. حَلم الفوهرر بأن يوحِّد أوروبا تحت سطوة العرق الآري، وأسّس ديغول وأديناور لوحدتها تحت عنوان المساواة والكرامة البشرية وتحويل الأنهر من حدود إلى جسور.
ما زلنا لا نفهم لماذا أحيط لقاء الجنرال عون والرئيس سعد الحريري بستار من السريّة وشتاء من النفي والإنكار. في العادة، الأخبار السارة والبنّاءة لا تُخفى. عادة تُخفى الأخبار المقلقة والموترة. ثُمَّ ها هو النائب الدكتور نبيل نقولا يوزّع الحلوى قائلاً لديما صادق ان أحداً من “المستقبل” أو 14 آذار أو حي الدكرمان، مقصود في كتاب “الإبراء المستحيل”! عادت ديما صادق تسأل الدكتور: “لا أحد منهم؟”. عاد الدكتور يشدّد: “نعم. لا أحد”.
هذه مصالحة يُفَرحُ لها ويُهَلّل. أقول ذلك بكل صدق. وعندما يتعب إبرهيم كنعان ويَشقى في المرة المقبلة ليؤلّف “الإبراء المستحيل”، عليه أن يحسب حساب الرجعة. فقد يفخت زميله البالون في وجه الرفاق والخصوم معاً. قصيرة درب السياسة وكلها أكواع. انتبه! كوع حاد. انتبه، انحدار. انتبه، اتجاه واحد ممنوع التزمير.
لا يمكن الدول أن تعيش على التوتر، لا العالي ولا الواطي. على رغم كل نياته الحسنة ومشاعره القومية وحماسياته الصادقة، وضع أحمد سعيد، مذيع “صوت العرب” الشهير، الأمة في حال توتر. وإذا شئت، فهو توتّر إيجابي. الانتصار في الانتظار، والوحدة على أول مفرق، ومن المحيط الهادر إلى الخليج الثائر. أو العكس.
في 9 حزيران 1967 أيقن جمال عبد الناصر أن التوتير الذي خلَّفه أحمد سعيد زاد في حجم النكسة، وفي وَقْع الخيبة. وعرف بحزن أن الطائرات الإسرائيلية التي أسقطها أحمد سعيد في الإذاعة زادت الشعور باليأس في أوساط الجيش والناس. وقال لوزير إعلامه محمد فايق، تصرّف. ومحمد فايق رجل عقل وعلم وأفق ورؤية. استدعى أحمد سعيد وقال له: أحمد، بلاش توتير. مصر تريد أن تعيش. أكباد المصريين ممزّقة ومعنويات الجيش في الحضيض. نريد العودة إلى حياة طبيعية.
قال أحمد سعيد، لا أستطيع التخلّي عن جماهيري! قال المصري العاقل: أحمد، جماهيرك تبحث عنك. إلحقها! منذ أن عدت للعيش في لبنان العام 1998، لا أذكر مرور شهر دون توتير. لا أذكر مرور أسبوع دون تلويث حياة الناس بتصريح عدائي، عُنفي، تخويني، تعنيفي، تأنيبي، تصغيري وحافل بالتحقير.
أتذكّر حكاية محمد فايق وأحمد سعيد، كلما سمعت نشرة أخبار، أو حاولت أن أسمع برنامجاً “حوارياً”. اختصر سعد الحريري ما وصلنا إليه بجملة تصويرية فائقة الدقّة والمرارة: “ربط نزاع”. خيوط واهية لا نعرف كيف تصمد ولا من يشدّ بها أو من يشدّها. كنّا نلتقي في “كافيه ميلانو” قبل سنوات ونتندّر حول كَثرة ضيوف واشنطن من الموارنة في الموسم. يروي سفير سابق لدى الفاتيكان أن مرشحاً جاءه مصرّاً على مقابلة وزير الخارجية في الحاضرة. اعتذروا لأن الرجل ليس معروفاً لديهم أو لدى أحد. أخيراً اتصل السفير بكاهن من أصدقائه وطلب منه أن يستعير طاقية حمراء ويأتي إلى الغداء. وعاد المرشح إلى بيروت يتحدّث عن الدعم الفاتيكاني. ولا يزال.
على السطح، تبدو هذه ظاهرة معقولة. فيما لا يحق للناخب العربي اختيار رئيسه إلا بالاستفتاء، يحق لكل ماروني إعلان نفسه مرشحاً للرئاسة والقيام بجولة على “عواصم القرار”. وما دمنا لا نقبل بأقل من التشبّه بديغول وأديناور، يحسن بنا أن نعرف أن عمدة برلين المقبل (در شبيغل) قد يكون الفلسطيني رائد صالح (34 عاماً). رائد صالح في كرسي فيلي برانت. باراك أوباما في كرسي جون كينيدي. قبله أصبح يوشكا فيشر، سائق التاكسي في برلين، وزيراً للخارجية في كرسي لودفيغ إرهارد وهلموت كول. فاز حزب فيشر بالاقتراع، وقد يفوز رائد صالح بالاقتراع. مواصفات الفائز تأتي من تحت لا من فوق. الذي يختار الرئيس هو الناس، ولو لم يصوّتوا. رئيس الجمهورية ليس جزءاً من عِظة يُلقيها بطرك الموارنة. مواصفات الرئيس وصِفاته تفرضها القيَم الجمهورية وترفُدها قيمه الوطنية.
جنيف ليست المكان المناسب (وربما حتى اللائق) لفرض المطلوبات في الرئيس المقبل. تحدّث البطرك الراعي عن المؤهلات المطلوبة وكأن بكركي تحدّد الشروط وتختار الفائز. في حين أن لا بكركي تُعيِّن ولا الرئاسة تعيين.
الرئاسة هي ذروة التقاليد الجمهورية. وكونها من حصة طائفة واحدة لا يلغي حقوق بقية الطوائف في اختيار الرئيس. وليس “بالإجماع” كما عاد البطرك وصحّح لدى عودته من الرحلة السويسرية، وإنما بالأكثرية الدستورية الديموقراطية، لأن الإجماع إملاء ومناقض بطبيعته لثقافة التعدّد ومبدأ الحرية وحق الاختيار والتعبير.
يمارَس هذا النهج خصوصاً في الفاتيكان، حيث تتكرّر دورات الاقتراع أحياناً قبل ظهور الدخان الأبيض. ولا يعرض أحد مواصفات البابا العتيد، لأنه ما إن يتحوّل من كاردينال إلى بابا، حتى يصبح هو المواصفات، كما في هذا الأرجنتيني الذي يُبهر العالم بدِعتِه وتواضعه وثوبه الأبيض مثل رداء المسيح.


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم